الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذا، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل:
لا يكون حجة لأن الخمر بعد أن حرمت صارت اثما، ولأنها غير معروفة عندهم بهذا الاسم وقد خصها لينصرف المعنى إليها وكذلك الاستدلال بقول الآخر: لأنه يتأثم به وقد نعته لينصر معناه عليه وعلى هذا جرى ابن الفارض رحمه اللّه بقوله: لا يكون دليلا على التسمية قبل التحريم وكله جار مجرى المجاز لأنها صارت إثما كبيرا بعد التحريم أما قبله فلا {وَالْبَغْيَ} أي الظلم والاستطالة على الناس وانما أفرده بالذكر مع انه داخل تحت الفواحش والإثم لعظم ارتكابه مبالغة في الزجر عن الأقدام عليه، ولو خامة عاقبته يوشك أن لا يمهل اللّه فاعله إلى الآخرة بل يعجل عقوبته في الدنيا وفيه قيل: وقال الآخر: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} متعلق بالبغي لأنه لا يكون الا بغير الحق، فإذا كان الاعتداء بحق لا يسمى بغيا بل مقابلة وهي جائزة، أما لو بغى عليك بضربة يد فقابلته بالسيف فقد بغيث عليه، ولو شتمك بلسانه فشتمته وضربته فقد بغيت عليه لأن اللّه أباح المقابلة بالمثل، راجع الآية 194 من البقرة في ج 3.وقد قال تعالى في الآية 190 منها: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ومن لا يحبه اللّه يبغضه والأحسن عدم المقابلة والسكوت قال أبو نواس: وقال تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} الآية 134 من آل عمران في ج 2، ولهذا البحث صلة في الآية 37 فما بعدها من سورة الشورى في ج 2 فراجعه ففيه الكفاية، قال تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} حرم الإشراك لأنه مضاهاة للربوبية وهو أعظم المحرمات لأنه كفر، أما بقية المحرمات إذا لم يستحلها مقترفها فلا يكون كافرا بل عاصيا، أي تعبدوا شيئا {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا} حجة أو برهانا بأن يشرك به أو معه غيره من مكوناته، وهذا على نفي الإنزال إذ لا يجوز أن ينزل سلطانا على ذلك، وهو تهكم بالمشركين لأنه لما امتنع حصول الحجة بالشرك وجب أن يكون قولهم به باطلا مطلقا {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 33} من الكذب والبهتان في اتخاذ الشريك والتحليل والتحريم والولد والصاحبة تعالى اللّه عن ذلك كله، أي كما حرم ما هو في صدد الآية كذلك حرم هذا أيضا لأنه افتراء محض على اللّه، فالذي حرم عليكم هو الحرام، وما حلله لكم هو الحلال لا مجال لكم في الخوض في ذلك البتة، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} تلبث فيه في هذه الدنيا مع نبيها يأمرهم وينهاهم خلاله حتى إذا أصروا على كفرهم أمهلهم ليرجعوا {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} المقدر لتعذيبهم ولم ينتهوا أخذهم حالا إذ {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً} عنه بل ولا لحظة لأن المراد بالساعة هنا مطلق الزمن {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 24} ساعة حذف من الثاني بدلالة الأول كما في الآية 17 من سورة ق المارة. .مطلب في الساعة بقسميها: واعلم أن الساعة في عرف المنجمين تنقسم إلى مستوية وتسمى فلكية، وهو زمان مقداره خمس عشرة درجة أبدا وكل درجة أربع دقائق، وإلى معوجة وتسمى زمانية، وهي زمان مقدر بنصف سدس النهار أو الليل أبدا، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالبا، والثانية الفقهاء واهل الكلام ونحوهم، وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا سواء كانت مستوية أو معوجة، إلا أن كل من الليل والنهار لا يزيد على اثنى عشر ساعة معوجة أبدا، ولهذا يطولان ويقصران، وقد تتساوى الساعة المستوية والساعة المعوجة عند استواء الليل والنهار، ونظير هذه الآية الجملة الأخيرة من الآية 28 من سورة يونس في ج 2، وفيها وعيد بإنزال العذاب على قريش إذا لم يؤمنوا بنبيهم وينتهوا عما نهاهم عنه، وتهديد عظيم بسوء العاقبة إذا أصروا، فيكون شأنهم شأن كل أمّة كذبت نبيّها بعذاب الاستئصال، وكان نزولها حين سألوا حضرة الرسول إنزال عليه الصلاة والسلام العذاب الذي يهددهم به فأخبرهم فيها أن له أجلا لا يتعداء لحظة إذا سألتم استعجاله أو تأخيره مهما استغثتم به منه {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا} هي إن الشرطية ضمت إليها ما فأدغمت لتأكيد الشرط ولذا لزمت الفعل الذي يليه النون الثقيلة والخفيفة مثل {يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} من جنسكم لا من الملائكة {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} من أوامر ونواهي وقصص وأمثال، وجواب الشرط {فَمَنِ اتَّقى} ما نهي عنه واعتبر بما وقع على الأولين {وَأَصْلَحَ} نفسه باتباع ما أمر به واتعظ بما قص عليه {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة مما يخافه المجرمون {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 35} على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم يرون من نعيم الآخرة الدائم ما ينسيهم تلك الزخارف الدنيوية المموهة الفانية المشوبة بالأكدار المصاحبة للهم والغم المتناولة بالكد والتعب، وهي إن خلت من حرام فلا تخلو من مشبوه كما لا يخلو أهلها من كذب وكبر واللّه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها} ولم يؤمنوا برسلنا استعظاما عليهم وماتوا على كفرهم {أُولئِكَ} الذين هذه صفاتهم وهذا شأنهم وديدنهم هم {أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ 35} لا يخرجون منها أبدا {فَمَنْ أَظْلَمُ} واشنع وأفظع ظلما {مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي تقول عليه ما لم يقله اختلاقا من لدنه من تحريم ما لم يحرم {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} المنزلة على رسوله المصرّحة بعدم الشريك والمثيل والولد والصاحبة له جلّ شأنه {أُولئِكَ} الذين هذه سجيتهم {يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ} اللوح المحفوظ المدون فيه كل ما عملوا وهو حظهم مما قدر عليهم فيه وما قدر لهم في الدنيا من الرزق والعمر والبلاء {حَتَّى إِذا} فرغ ما لهم عنده من ذلك كله حتى الهواء {جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} فيسألونهم سؤال توبيخ وتبكيت لا استعلام {قالُوا} لهم رسل الموت {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الآلهة التي كنتم تعبدونها وتلجأون إليها في مهامّكم وعند الشدة، ادعوهم الآن ليدفعوا عنكم الموت {قالُوا} المتوفون المكذبون {ضَلُّوا عَنَّا} غابوا وتركونا عند أشد حاجتنا إليهم وقد تبين لنا الآن عدم نفعهم وإنا كنا مغرورين بهم ولا ندري أين هم الآن، وذلك بعد أن استعانوا بهم فلم يردوا عليهم لذلك قال تعالى: {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 37} جاحدين وحدانية اللّه ونبوة رسله وما أنزل عليهم من الكتب، واعترافهم هذا تحسر على ما فات، وهذا السؤال والجواب واجب الإيمان به بمقتضى ظاهر القرآن وانه واقع لا محالة، وعدم سماعنا له لا يكون حجة لعدم وقوعه لأن اللّه قادر على ان يسمع وان لا يسمع ولا تعارض بين ما في هذه الآية وآية {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} 23 من الأنعام في ج 2 لأن مواقف القيامة متعددة كما مر في الآية 60 من ص وما يرشدك لغيرها فيها وهذا غير سؤال القبر الذي يجب الاعتقاد به وهو لا يسمع ايضا أما سؤال يوم القيمة فيكون على ملأ الأشهاد ولا تردد فيه، ومنه آية الأنعام المارة ولهذا قلنا لا تعارض بينهما.هذا والطوائف مختلفة والأحوال شتى وان ما مشى عليه بعض المفسرين بأن هذا السؤال يكون يوم القيمة للكافرين من قبل ملائكة العذاب وحكمه حكم آية الأنعام ينافيه ظاهر الآية المفسرة الدالة على وقوعه في الموت، وعلى هذا يكون هنا سؤال عند الموت وآخر في القبر لا يسمعان والثالث في البعث في جميع مواقف القيمة مسموع.تدبر و{قالَ} تعالى لأولئك الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي بيتها وهي التي {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ} قدمهم لمزيد شرهم ولكون شرهم عدوانا {وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} جزاء اشراككم وبهتكم في الدنيا فهي مأواكم ومقركم {كُلَّما دَخَلَتْ} النار فهم {أُمَّةٌ} جماعة أو ملة واحدة {لَعَنَتْ أُخْتَها} من اهل ملتها التي أضلتها فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة حيث زادت في عذابها {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها} تلاحقوا واجتمعوا جميعا الأولون والآخرون {قالَتْ أُخْراهُمْ} الأتباع {لِأُولاهُمْ} المتبوعين من القادة والرؤساء {رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا} في الدنيا عن الهدى وسنّوا لنا طرق الردى وأمرونا باتباعهم {فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} لأنهم ضلوا وأضلوا، والضعف في اللغة ما زاد على المثل غير مقيد بمثلين أو أكثر فأوله المثل وأكثره غير محصور لذلك يطلق على مثل الشيء وتضعيفه عند الإطلاق، فاذا أضيف لعدد اقتضى ذلك العدد مثله فاذا قلت ضعف عشرة او ضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف {قالَ} تعالى: {لِكُلٍّ} منهم ومنكم {ضِعْفٌ} اما هم فلضلالهم وإضلالهم، وأما أنتم فلضلالكم واتخاذكم المتبوعين أولياء تأتمرون بأمرهم وتنتهون بنهيهم.وهذا الضعف كالأول غير مقيد بالمثل فيشمل أضعافا كثيرة لأنه لم يضعف لعدد، تدبّر.{وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ 38} ما أعد اللّه لكل منكم من العذاب لان كلا منكم مشغول بما هو فيه- وقرئ لا يعلمون بالياء-..مطلب مواقف يوم القيامة وإمكان القدرة: وعليه تكون هذه الجملة منفصلة عما قبلها بسبب الالتفات في الخطاب إلى البغية {وَقالَتْ أُولاهُمْ} المتقدمون عليهم في المنزلة {لِأُخْراهُمْ} المتأخرين عنهم مكانة بحسب الدنيا أي قالت الأشراف للسفلة {فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} لأنكم كفرتم فما كفرنا فنحن وأنتم متساوون في العذاب وسببه، وهذا مرتب على قوله تعالى على وجه السبب: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} فهو يؤذن بالمساواة، والفاء جواب الشرط أي إذا كان كما قال تعالى وهو كما قال فلا فضل لكم علينا فلما ذا تدعون علينا وبعد ان يزجوا في النار ويزداد تصايحهم فيها يقول لهم تعالى قوله: {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 39} في الدنيا من الأعمال الخبيثة، فيسكتون بعد سماع كلام اللّه الذي لا يبدل وهو القائل {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} الدالة على عظمتنا وقدرتنا الموضحة لأحكام ديننا المبلغة على لسان انبيائنا {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها} فلم يعتنوا بها ويلتفتوا إليها في الدنيا {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ} الآن كما هو الحال عند موتهم {أَبْوابُ السَّماءِ} أي لا يسمع دعاؤهم حين يستغيثون بنا في هذا الموقف كما لا يصعد لهم عمل في الدنيا ولا ترفع أرواحهم إليها إذا ماتوا لأن كلامهم وأعمالهم وأرواحهم خبيثة فهم محرومون من بركة السماء وغيرها ورحمة خالقها إذ لا يصعد إلى اللّه الا الكلم الطيب والعمل الصالح والأرواح الطاهرة {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} هؤلاء المستكبرون عنا في حياتهم الدنيا {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} يدخل {فِي سَمِّ الْخِياطِ} ومن المعلوم عدم إمكان دخوله أي لا يدخلون ابدا، وهذا من ضرب المحال كقوله لا آتيك حتى يشيب الغراب أو يبيضّ القار أو يسود الثلج، وخص الجمل لأنه أكبر الحيوانات في الجملة عندهم، حتى انهم يضربون به المثل فيقولون جسم الجمال وأحلام العصافير، لقليل العقل.ويضربون المثل الضيق المسلك بثقب الإبرة كناية عن الشيء الذي لا يكون قال:ويطلق الجمل على الحبل الغليظ ولذلك فسره به بعض المفسرين لأنه مما يسلك إلا أن سلكه في الابرة محال، وعلى كل فيكون دخولهم في الجنة محالا، كما أن دخول الجمل أو الحبل الغليظ في ثقب الابرة محال، لأنه مما لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه لأنها انما تتعلق بالممكنات الصرفة، والممكن الولوج بتصغير الغليظ وتوسيع الضيق فاذا أراد اللّه تعالى مثل هذا فعل ما يريد وهو على كل شيء قدير.واعلم أن من فسر الجمل بالحبل قرأه بضم الجيم وتشديد الميم كي يراد به الحبل الذي ذكرناه في الآية 33 في المرسلات المارة قال تعالى: {وَكَذلِكَ} مثل ذلك الجزاء الفظيع {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ 40} في دنياهم في الدار الآخرة وأل فيه للجنس فيشمل كل مجرم.
|